المحرّق: مدينة اللّؤلؤ

كانت مدينة المحرّق القديمة عاصمةً للبحرين في الفترة ما بين ١٨١٠ وحتّى ١٩٢٣، وهي الفترة التي ازدهر فيها اقتصاد اللّؤلؤ، ولا زال لهذه المدينة سحرها ومكانتها، باعتبارها ثاني أكبر جزيرة في مملكة البحرين.

 

على مدى القرون، اعتُبِرَت جزيرة المحرّق أيضًا عاصمةً للّؤلؤ في منطقة الخليج العربيّ، وذلك لكونها أكثر المدن ازدهارًا واتّصالًا بهذا الاقتصاد العريق، بالإضافة إلى كونها موطنًا لأكبر عددٍ من الغوّاصين. كان جميع أهل الجزيرة مدمجين بطريقة مباشرة في أنشطة الغوص واللّؤلؤ، وفي تزويد وتطوير الصّناعات المتّصلة بها، كما تفتخر المحرّق بكونها الأرض التي ينطلق منها الأسطول الأكبر لسفن اللّؤلؤ.

 

شكّل اقتصاد اللّؤلؤ علامةً فارقةً لجزيرة المحرّق عن غيرها من المجتمعات المدنيّة في منطقة الخليج العربيّ، خصوصًا في العقد الأخير من ازدهار هذا الاقتصاد، إذ كانت تمتاز ببنائها المعماريّ المشيّد بواسطة الأحجار البحريّة. في المقابل، كانت العديد من مراكز اللّؤلؤ الأصغر في منطقة الخليج مثل دبيّ، في مطلع القرن العشرين، تمتاز بعمران (البرستيّ)، والذي يقوم على فكرة تشييد بيوتٍ مؤقّتة باستخدام موادّ النّخيل. هذا البناء الحجريّ والتّطوّر المعماريّ الذي شهدته مدينة المحرّق القديمة في تلك المرحلة، هو رمزيّة البقاء والأهميّة التي حقّقتها المدينة آنذاك، وهو ما شكّل شاهدًا تاريخيًّا فريدًا على مجتمعات اللّؤلؤ، ليس في البحرين فحسب، بل في كلّ منطقة الخليج العربيّ.

 

مع مرور الوقت، تراجع اقتصاد اللّؤلؤ، بالتّزامن تقريبًا مع اكتشاف النّفط والغاز الطّبيعيّ في البحرين، الأمر الذي أدّى إلى تراجع دور مدينة المحرّق، مقابل توسّع أهميّة ودور مدينة المنامة الواقعة ناحية الميناء في جزيرة البحرين الأمّ. إلّا أنّ النّموّ المتسارع في العاصمة البحرينيّة الجديدة (المنامة) ساعد المحرّق في الحفاظ على هويّتها وبيئتها المعيشيّة العامّة. حيث أنّه، وبالرّغم من النّموّ العمرانيّ الحديث الذي شهدته المنطقة، إلّا أنّ مدينة المحرّق ضمن أجزاء واسعة منها، تمكّنت من الحفاظ على نسيجها المعماريّ، ونمط شوارعها وتقاطعاتها كما في فترة اللّؤلؤ، إذ تتّسم بكونها شبكة من الأزقّة الضّيّقة، ذات العناصر الملهمة، ورمزيّات الهويّة العريقة.

مجلس سيادي، 2016، كميل زكريا

اقتصاد اللّؤلؤ

شكّلت مصائد اللّؤلؤ في النّاحية الشّماليّة من مملكة البحرين المورد والمركز الأساسيّ لصيد اللّؤلؤ الطّبيعيّ، الذي ازدهرت مواسمه في الخليج العربيّ على الأقلّ منذ القرن الثّالث قبل الميلاد، وحتّى بدايات القرن العشرين. وقد أدّى ارتفاع الطّلب على اللّؤلؤ في بدايات القرن التّاسع عشر إلى ظهور اقتصاد المُنتَج الواحد في مملكة البحرين، والذي كان يتركّز في عاصمتها آنذاك، وعاصمة اللّؤلؤ في كل الخليج العربيّ: المحرّق.

 

في عام ١٨٧٧، شكّلت صادرات اللّؤلؤ ما يعادل ثلاثة أرباع صادرات البحرين، وكانت أغلبها موجّهة إلى بومباي، وإيران، وتركيا. تلتها في القرن اللّاحق أوروبا، باعتبارها أحد أهمّ الأسواق المباشرة لصادرات اللّؤلؤ البحرينيّ، حيثُ تُقدّر نسبة منتوج اللّؤلؤ الذي يُصدّر عبر مملكة البحرين بحواليّ ٩٧.٣٪ من مجموع منتوج الخليج العربيّ في العامين ١٩٠٤ و١٩٠٥. وقد تضاعفت قيمة صادرات اللّؤلؤ البحرينيّ ٦ مرّات خلال الأعوام ما بين ١٩٠٠ و١٩١٢، عندما اتّسع السّوق البحرينيّ ليشمل التّجّار الذين انضمّوا إليه من الهند أيضًا، بالإضافة إلى تجّار آخرين من باريس، ولندن، ونيويورك، حيث كانت المنافسة من أجل نيل أرقى وأجود أنواع اللّؤلؤ من موطنها الأصليّ.

 

خلال موسم الغوص وصيد اللّؤلؤ السّنويّ في مملكة البحرين، كان العمل يتّسع ليكون سعيًا مجتمعيًّا مشتركًا، بدءًا من تجّار اللّؤلؤ، والغوّاصين، وقائدي السّفن، وصولاً إلى صانعي السّفن، وتجّار الأخشاب، ومزوّدي المستلزمات العامّة، حيث كان كلّ من على جزيرة المحرّق يمتهن حِرْفةً أو مهنة ذات صلةٍ باقتصاد اللّؤلؤ.

 

وقد بلغ اقتصاد اللّؤلؤ أوجه في الفترة ما بين العامين ١٩١١ و١٩١٢، إلّا أنّ الأحداث التي تعاقبت لاحقًا أدّت إلى انهيار هذا الاقتصاد، حيث شهدَ العالم آنذاك مجموعةً من الكوارث، بما في ذلك: الحروب، والانهيار الماليّ، وظهور اللّؤلؤ الاصطناعيّ الرّخيص، وأزمة بورصة وول ستريت الماليّة، وما تبع ذلك من تأثيرٍ على أسواق الكماليّات. إلى جانبِ ذلك، شهد اقتصاد اللّؤلؤ العديد من أعمال المظاهرات من قِبَل الغوّاصين احتجاجًا على تردّي أوضاعهم المادّيّة وفقدانهم لمصادر رزقهم، الأمر الذي تسبّب في تدهور تجارة وصيد اللّؤلؤ خلال الثّلاثينيّات من القرن العشرين، وانهيارها تمامًا مع حلول عام ١٩٥٠.

مجتمع اللّؤلؤ

منذُ آلاف السّنين، شكّل اللّؤلؤ والتّجارات المرتبطة به اقتصاد المجتمع البحرينيّ وهويّته الثّقافيّة. ونظرًا لاعتبار مدينة المحرّق مركز اللّؤلؤ، فقد أصبحت البحرين المحطّة الإقليميّة الاقتصاديّة، حيث يلتقي فيها غوّاصو اللّؤلؤ والعاملون على متن السّفن من كلّ دول الخليج، وذلك للإبحار بسفنهم واختبار حظوظهم من أجل الوصول للكنزِ المنشود. وقد كانت العوائد والأرباح المتأتّية من موسم الغوص هي المصدر المادّيّ لإعالة السّكّان المحلّيّين وتمويل تجاراتهم، بما في ذلك: التّجّار، والدّائنون، وأصحاب السّفن، وصانعوها، وقائدو السّفن، والغوّاصون، والسّاحبون، وصانعو الأشرعة. وكان اللّؤلؤ البحرينيّ المُستَخرج يتمّ تصديره إلى أوروبا والهند، حيث يتمّ صقله والمتاجرة به في الأسواق العالميّة الكبرى.

 

وعلى الرّغم من تراجع اقتصاد اللّؤلؤ كنتيجةٍ للتّحوّلات الاقتصاديّة في القرن العشرين، إلّا أنّ العديد من الممارسات والمظاهر المتّصلة به لا زالت قائمة، كما بقي اللّؤلؤ رمزًا أساسيًّا للهويّة الثّقافيّة للمجتمع البحرينيّ. إنّ استمراريّة أثر تراث اللّؤلؤ بأبعاده المادّيّة وغير المادّيّة، يُعدّ اليوم شاهدًا فريدًا على العلاقات والرّوابط الخليجيّة – الإقليميّة، الاجتماعيّة منها والاقتصاديّة، وذلك قبل اكتشاف النّفط في المنطقة.

Coming soon for mobile...

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتزويدك بتجربة تصفح مثالية. من خلال الاستمرار في زيارة هذا الموقع ، فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط هذه.