شكّلت مصائد اللّؤلؤ في النّاحية الشّماليّة من مملكة البحرين المورد والمركز الأساسيّ لصيد اللّؤلؤ الطّبيعيّ، الذي ازدهرت مواسمه في الخليج العربيّ على الأقلّ منذ القرن الثّالث قبل الميلاد، وحتّى بدايات القرن العشرين. وقد أدّى ارتفاع الطّلب على اللّؤلؤ في بدايات القرن التّاسع عشر إلى ظهور اقتصاد المنتج الواحد في مملكة البحرين، والذي كان يتركّز في عاصمتها آنذاك، وعاصمة اللّؤلؤ لكلّ الخليج العربيّ: المحرّق.
في العام ١٨٧٧م، شكّلت صادرات اللّؤلؤ ما يعادل ثلاثة أرباع صادرات البحرين، وكانت أغلبها موجّهة إلى بومباي، إيران وتركيا. تلتها في القرن اللّاحق، أوروبا باعتبارها أحد أهمّ الأسواق المباشرة لصادرات اللّؤلؤ البحرينيّ، حيثُ تُقدّر نسبة منتوج اللّؤلؤ الذي يُصدّر عبر مملكة البحرين بحواليّ ٪٩٧.٣ من مجموع منتوج الخليج العربيّ في العامين ١٩٠٤م و١٩٠٥م. وقد تضاعفت قيمة صادرات اللّؤلؤ البحرينيّ ٦ مرّات خلال الأعوام ما بين ١٩٠٠م و١٩١٢م، عندما اتّسع السّوق البحرينيّ ليشمل التّجّار من الهند أيضًا الذين انضمّوا إليه، بالإضافة إلى تجّار آخرين من باريس، لندن ونيويورك، حيث كانت المنافسة من أجل نيل أرقى وأجود أنواع اللّؤلؤ من موطنها الأصليّ.
خلال موسم الغوص وصيد اللّؤلؤ السّنويّ في مملكة البحرين، كان العمل يتّسع ليكون سعيًا مجتمعيًّا مشتركًا، بدءًا من تجّار اللّؤلؤ، الغوّاصين، قائدي السّفن، وصولاً إلى صانعي السّفن، تجّار الأخشاب، ومزوّدي المستلزمات العامّة، حيث كان كلّ مع على جزيرة المحرّق يمتهن حِرْفةً أو مهنة ذات صلةٍ باقتصاد اللّؤلؤ.
وقد بلغ اقتصاد اللّؤلؤ أوجه في الفترة ما بين العامين ١٩١١م و١٩١٢م، إلّا أنّ الأحداث التي تعاقبت لاحقًا أدّت إلى انهيار هذا الاقتصاد، حيث شهدَ العالم آنذاك مجموعةً من الكوارث، بما في ذلك: الحروب، الانهيار الماليّ، ظهور اللّؤلؤ الاصطناعيّ الرّخيص، أزمة بورصة وول ستريت الماليّة، وما تبع ذلك من تأثيرٍ على أسواق الكماليّات. إلى جانبِ ذلك، شهد اقتصاد اللّؤلؤ العديد من أعمال المظاهرات من قِبَل الغوّاصين احتجاجًا على تردّي أوضاعهم المادّيّة وفقدانهم لمصادر رزقهم، الأمر الذي تسبّب في تدهور تجارة وصيد اللّؤلؤ خلال الثّلاثينيّات من القرن العشرين، وانهيارها تمامًا مع حلول العام ١٩٥٠م.
منذ العصور القديمة، كانت مجوهرات اللّؤلؤ والأحجار الكريمة مصدر إلهام وشغفٍ. حيث تشير اللّآلئ المثقوبة التي عُثِر عليها في سواحل الخليج العربيّ إلى استخدام هذا الكنز في صناعة الحُليّ والمجوهرات منذ سنة ٥٠٠٠ قبل الميلاد.
لا شكّ إذًا أنّ للّؤلؤ الطّبيعيّ اللّامع جاذبيةٌ لا متناهية ولا يمكن مضاهاتها. وقد انعكس ذلك خلال العديد من أعمال كبار أساتذة عصر النّهضة من قلائد وأقراط اللّؤلؤ الطّبيعيّ، بالإضافة إلى استخدام اللّؤلؤ الطّبيعيّ في زخارف ونقوش التّيجان الملكيّة الرّجاليّة والنّسائيّة، ودبابيس الشّعر والملابس على مرّ العصور، وذلك لإبراز تفوّق تلك الحضارات وعالميّتها. في البحرين، كانت محلّات سياديّ التي تعود ملكيّتها لعائلة سياديّ الشّهيرة بتجارة اللّؤلؤ، تُعدّ مركز إصدار وتجارة مجوهرات اللّؤلؤ في البحرين خلال تلك الفترة الاقتصاديّة.
وحتّى بداية القرن العشرين، كان معظم منتوج البحرين من اللّؤلؤ يُصدّر إلى بومباي، حيث يتمّ تصنيفه، تنسيقه، وثقبه قبل عمليّة إعادة بيعه. في مرحلةٍ لاحقة، أصبح أشهر تُجّار وصانعي المجوهرات الفرنسيّين، البريطانيّين والأميركيّين يجيئون لزيارة البحرين لانتقاء اللّؤلؤ الطّبيعيّ لصياغة نفائسهم من المجوهرات، وقد كان من ضمنهم جاك كارتييه، صاحب أرقى محلّات المجوهرات في فرنسا، الذي أسّس لعلاقة مع البحرين لا تزال مستمرّة حتّى يومنا هذا.
في متحف اللّؤلؤ الذي سيتمّ تأسيسه في مجلس سياديّ، سيتمّ عرض مقتنيات من مجوهرات اللّؤلؤ، من بينها بعض المقتنيات الأرشيفيّة التي صمّمها كارتييه من اللّؤلؤ البحرينيّ، بالإضافة إلى العديد من مجوهرات وحليّ اللّؤلؤ البحرينيّة سواء القديمة ذات التّصاميم التّراثيّة وحتّى تلك المعاصرة.
ولا تزال هذه الصّناعة التّاريخيّة لصياغة روائع المجوهرات والحليّ من اللّؤلؤ الطّبيعيّ البحرينيّ مستمرّة على أيدي العديد من الحِرَفيّين المهرة. ومن الجدير بالذّكر، أنّ البحرين تمنع استيراد أو المتاجرة باللّؤلؤ الاصطناعيّ، كما تفخر بمعامل اختبار اللّؤلؤـ للتّأكيد على أصالة كلّ لؤلؤة طبيعيّة يتمّ بيعها.
حرفة ثقب اللؤلؤ يدويا
كانت أنشطة اقتصاد اللّؤلؤ تعتمد على نظامٍ تجاريّ معقّد، وعددٍ من الصّناعات الدّاعمة التي أنعشت العمل في السّفن ومتطلّبات التّموين خلال موسم الغوص (الغوص الكبير). وقد كانت العديد من العوائل البحرينيّة تعتمدُ بصورةٍ تامّة على الدّخل الذي تحقّقه صناعات التّموين والتّزويد، والذي كان يُعدّ كافيًا لتأمين الحياة المعيشيّة للطّبقة المتوسّطة أو الأعلى منها. يوسف عبدالرّحمن فخرو ومحمود محمّد العلويّ كانا من ضمن هذه العائلات، التي حقّقت قوّتها الاقتصاديّة من خلال تجارة التّموين. مجمع العمارات الذي يقع في سوق المحرّق وبيت فخرو يمثّلان نماذج واقعيّة تعكس مدى الثّراء والقوّة اللّتين تحقّقتا بفضل هذا النّمط الاقتصاديّ خلال فترة ازدهار اللّؤلؤ. كما يُقدّم بيت العلويّ باعتباره أحد البيوت المدرَجة ضمن التّراث الإنسانيّ العالميّ سردًا معماريًّا، يُعبّر عن الثّراء الذي تجلبه تجارة التّموين، ويُعتَبر البيت نموذجًا لبيوت التّجّار من الطّبقة المتوسّطة.
وتشمل موادّ التّموين والتّزويد مستلزمات صيانة السّفن، عتاد الصّيادين والغوّاصين، المياه العذبة والأغذية. وقد كانت تُحفَظ مياه الشّرب والمستخدمة للطّبخ أيضًا في خزّانات خشبيّة كبيرة على متن سفن الصّيد المجّهزة، وعندما توشِك تلك المياه على النّفاد، كان يتمّ تحصيل المياه العذبة من أحد العيون الطّبيعيّة تحت الماء والتي كانت منتشرة بكثرة آنذاك، أو كبديلٍ لذلك، فقد كان يتمّ إيصالها مع الموارد الغذائيّة بواسطة مراكب تزويد خاصّة، يوفّرها التّجار المحلّيّون. ولم تكن تلك المراكب توفّر الماء فحسب، بل وكذلك القهوة، التّمر، الأرزّ والتّبغ.
على اليابسة، كانت المستودعات (العمارات) توفّر بدورها العديد من الاحتياجات التّجاريّة، بما في ذلك معدّات ولوازم بناء السّفن، ولاحقًا، أصبحت توفّر حتّى السّلع والمتطلّبات العامّة مثل موادّ البناء، النّسيج والبقّالة. وقد تطوّرت تلك المستودعات فيما بعد لتكون على مستوى عالٍ من التّخصّصيّة، وتحديدًا في مدينة المحرّق.
بيت فخرو، 2016، كميل زكريا
بيت العلويّ، 2016، كميل زكريا
يُشكّل طاقم سفن اللّؤلؤ وحدةً متماسكة، تتكامل فيها الأدوار، حيث يعمل أفراد الطّاقم جنبًا إلى جنبٍ على متن السّفن. فعلى متن السّفينة، يوجد الغوّاص (الغيص)، السّاحب (السّيب) ومساعده الشّاب (رضيف)، والمعاون ذي المهامّ المتعدّدة، ويكون عمره ما بين ٩ إلى ١٣ عامًا (التّبّاب)، وصديق قائد السّفينة الأقرب ونائبه الأوّل (مجاديمي) وقائد السّفينة (النّوخذة). أمّا على أرض الجزيرة، فيوجد تجّار اللّؤلؤ (الطّواويش) والذين يقومون بأدوار البيع والمنتاجرة باللّؤلؤ في الأسواق الإقليميّة والعالميّة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ العديد من الرّجال العاملين ضمن طاقم السّفينة بدأوا أعمالهم في عالم اللّؤلؤ بدور التّبّاب الشّاب. وتشمل مهامّهم المُساعِدة: خدمة العاملين على متن السّفينة، تحصيل المياه العذبة من عيون الماء الطّبيعيّة البحريّة، البحث عن الفحم، وغسل ملابس طاقم السّفينة. بعد سنواتٍ قليلة من التّدريب، يمكن للتّبّاب أن يقوم بدور الرّضيف. مع مرور الوقت، يكتسب هذا الشّاب كلّاً من القوّة والتّجربة اللّازمتين اللّتين تمكّنانه من العمل كساحب أو غوّاص. حيث يقوم الأخير بجمع محّار اللّؤلؤ من مصائده، فيما يقوم السّاحب بسحب الغوّاص من أعمال البحر، وضبط أشرعة السّفن. أمّا قائد السّفينة (النّوخذة) فيُعتَبر المخطّط لمسار الرّحلة خلال موسم الغوص والمشرف على أعمال طاقمه.
من خلال مشروع مسار اللّؤلؤ، يقدّم كلّ من بيت الغوص وبيت النّوخذة تصوّرًا حقيقيًّا لحياة ومعيشة طاقم العاملين في اقتصاد اللّؤلؤ.
بيت الغوص، 2016، كميل زكريا
بيت النّوخذة، 2016، كميل زكريا
اعتمَد اقتصاد اللّؤلؤ في مدينة المحرّق وبقيّة مجتمعات الخليج الغربيّ على الإمداد المادّيّ والقروض المُقدّمة لطاقم السّفينة والبحّارة. وكان كبار التّجّار هم الدّائنون الرّئيسيّون الذين يقومون بتقديم دفعات مادّيّة مبكّرة لقائدي السّفن، والذين يقومون هم الآخرون بتوظيف تلك الأموال لأعمال الصّيانة، وتزويد وإعداد السّفن، بالإضافة إلى تقديم القروض والدّفعات المسبقة للغوّاصين من أجلِ دعمِ عوائلهم. ولكن في حال لم يحالف الحظّ طاقم السّفينة مع انتهاء موسم الغوص، فعليه تحمّل تلك الخسارة، ويبقى هذا الدّين المُقدّم ضمن مسؤوليّاتهم حتّى مع حلول الموسم المقبل، كما استمرّ توريث الدّين لابن الغوّاص أو السّاحب فيما حال لم يتمّ سداده حتّى فترة إصلاحات القوانين التّنظيميّة لصيد اللّؤلؤ في العشرينيّات من القرن العشرين.
في البداية، كان نظام التّمويل والاقتراض يخضع للأعراف السّائدة، وللعائدات التي يحقّقها الدّائن. ويمكن تقسيم تلك القروض التي تُقدّم إلى طاقم السّفينة إلى ثلاثة أنواع. النّوع الأوّل: (تقسام)، والذي كان يُمنَح خارج موسم الغوص، وتحديدًا بعد شهرين من موسم الغوص الكبير، وذلك لإعالة عوائل الغوّاصين والسّاحبين. النّوع الثّاني: (سلف)، والذي كان يُمنَح في بداية موسم الغوص، وذلك لإعالة عوائل الغوّاصين خلال فترة غيابهم. أمّا النّوع الثّالث فقد كان يُمنَح خلال منتصف موسم الغوص، ويُعرَف باسم (خرجيّة)، وهي من أجل استكمال السّلف، أو في حال الحاجة إلى إمدادٍ مادّيّ إضافيّ للسّفن خلال فترة الغوص. إضافةً إلى ذلك، كانت هنالك طرق عدّة لتقديم الدّفعات الماليّة من قِبَل المموّل، ومنحه الفوائد المُستَحَقّة مع الأخذ بعين الاعتبار مسألة تجنّب التّحريم الإسلاميّ للرّبا في الوقت ذاته.
كانت الأبعاد الاجتماعيّة والسّياسيّة لتجارة اللّؤلؤ تخضع لنظام إداريّ وقانونيّ، شكّل القاعدة القانونيّة الأساسيّة لإدارة العلاقات الاجتماعيّة وعقد الصّفقات الماليّة في تلك الفترة. وكانت مثل هذه المسائل تُطرَح في اللّقاءات الاجتماعيّة الأهليّة (المجالس) والتي تتمّ عادةً في مكانِ أو مجلس أحد كبار التّجّار أو الشّخصيّات الوطنيّة الهامّة في المجتمع. وكانت هذه المجالس مفتوحة للعامّة، وكان لها دورٌ رئيسيّ في حلّ النّزاعات وتحكيمها. مثل هذا التّنظيم استُبدِل لاحقًا بنظامٍ قضائيّ، وذلك بالتّزامن مع التّطويرات الحديثة. كما ظهرت محكمة خاصّة (سالفةالغوص)، وذلك للنّظر في النّزاعات والخلافات، خصوصًا تلك الماليّة، ما بين أفراد طاقم الغوص وقائدي السّفن.